فصل: النوع الثاني: ...........................................................

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الضرب الثاني من مقاصد المكاتبات: ما يكتب عن السلطان في الجواب:

وكل معنى من المعاني الواردة بها الكتاب إليه يستق جوابه منها، وغالب ما يعتنى به من ذلك جواب ما يرد من المكاتبات بالتقادم والهدايا، وما في معنى ذلك. وهذه أدعية من ذلك يستضاء بها في أوائل الأجوبة عن المعاني التي ترد فيها. جواب سلطاني عن وصول خيل: ولا زال يتحف بكل صاهل في الجحفل، جمال في المحفل، وأجرد إذا أم غاية لمعت في أثره البروق تتطفل، ومسوم يلتزم جلاله بمزيد جلاله، وكيف لا وهي إذ أسدلت عليه يتكفل؟ أصدرناها والعطر يضوع من سلامها، والمسك يفوح من ختامها، وآثار الندى تحكي آثار أقلامها.
آخر في المعنى: ولا زال محتفلاً بالجياد وإرسالها، ومهدياً لركابنا الشريف السوابق التي إذا لم يسابقها شيء من الحيوان تجلت في مسابقة ظلالها، وينتقي لمواكبنا الخيول التي إذا أصبحت في مدى أصبحت الرياح تتعلق بأذيالها. أصدرناها.
آخر في مثله: ولا زال يُهدي إلينا من الجياد بحراً، ويقود من العراب ما تملأ غرته المواكب بشراً، وإذا طلع يزيدها عزاً ونصراً، من كل طرف تأصل حسناً وحسن إهاباً وجل قدراً.
آخر في مثله: وأعلى له صهوات العتاق مرتقى، وخصه بكل جواد وهو منتقل إليه منتقى، وأطلع عليه نواصي الصوافن التي عقد الخير بها عقداً موثقاً. أصدرناها ونور التحايا من أرجائها ينير، ومفاخرها تشرف بها كل منبر وسرير، وركائب أثنيتها تسير إلى مقامه فتطيب راحلة في ذلك المسير.
آخر في مثله: ولا زال يهدي من الجياد المسومة أصائلها، ويتحف مما يحييه عند الوفادة عليه صاهلها، ويقابل أكرم غرة، الخير معقود بناصيتها واليمن يقابلها، ويمتع بأعز جواد حلية الشفق دون إهابه إذ يماثلها، وسرعة البرق خفته إذ يساجلها.

.الضرب الثالث من الكتب السلطانية: الكتب الصادرة عن نواب السلطنة إلى النواب بسبب ما يرد عليهم من المثالات السلطانية:

اعلم أنه قد جرت العادة بأنه إذا ورد على نائب السلطنة بالشام مثال شريف من الأبواب السلطانية، يأمرهم كتب نائب الشام إلى نواب السلطنة بورود المثال الشريف مبشراً بذلك، ويجهز إلى كل منهم مع المثال الوارد إلى كل نائب من نواب السلطان معنى المثال الوارد بذلك، لا أنه مبتدئه، ويشتمل ذلك على عدة أمور: فمن ذلك جلوس السلطان على تخت الملك، فيخبر نائب الشام في الكتاب الصادر عنه إلى بعض النواب بأن المثال الشريف ورد عليه بذلك، وأنه ورد كتاب إلى المكتوب إليه فجهزه إليه.
وهذه نسخة كتاب من ذلك، كتب به عن نائب الشام إلى بعض نواب السلطنة، بالبشارة بسلطنة السلطان الملك الصالح إسماعيل بن الناصر محمد بن قلاوون، وقد ورد على يد بعض الحجاب، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباته، في سنة ثلاث وأربعون وسبعمائة، وهي بعد الصدر: أمتعه الله من البشائر بما يتوضح على جبين الصباح بشره، وبما يترجح على ميزان الكواكب قدره، وبما ينفسح من أوقات أمن لا يختصم في ظلها زيد وعمرو حتى يقال: ولا زيد النحو وعمره. وينهي بعد الدعاء يتبلج في الليل فجره، وثناء يتأرج في طي النسيم نشره، وولاء يتساوى في درجات الصفاء سره وجهره، أن خير البشائر ما خص أولياء الدولة الشريفة وعم الرعايا، وسما إلى ثغور الإسلام خبره الجلي فقال: - وافر- أنا ابن جلا وطلاع الثنايا. وقسمت مسرته على كافلي الممالك فقالت مملكة مولانا- وافر- لنا المرباع منها والصفايا. وسلك المملوك من الإسراع بإشاعته الحق الواجب وجهز خدمته بين يدي المثال الشريف الذي سبق طائر يمنه ولكنه جاء في خدمته حاجب، وهي البشرى الواردة في الأمثلة الشريفة السلطانية، المالكة الملكية، الصالحية العمادية، العريقة في نسب النصر بالأنساب الناصرية المنصورة، أعلى الله تعالى أبداً على قواعد الملك عمادها، وصرف بها الأعنة لما سر وصرفها عما دهي، بجلوسه على كرسي المملكة الذي هو آية سعده الكبرى، وتخت السلطنة الذي عاينه ملك الجود والعلم، فقال: السلام عليك بحراً، وإجماع الأمة على أنه صالح المؤمنين، وكفاة الحل والعقد على أنه سلطان الإسلام والمسلمين، وأركان البيت الناصري على أنه عماده، وعلى أنه سنده المكمل وإذا انقض بيت سناده، فيا له جلوساً قامت فيه كواكب السعد مشدودة المناطق، ويا له إجماعاً اتفق فيه- حتى من تصميم السيوف وتعبير الأقلام- كل صامت وناطق، ويا له بيت ملك أبى الله إلا أن يقيم وزنه أفضل الأفاعيل، ويا له ملكاً قال الدهر الطويل انتظاره: الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل. ويا له أمراً بلغ خبره وخبره الأوطار والأوطان، ونفذت برده المصرية على حين فترة تالية له السعود: فأنفذوا لا تنفذون إلا بسلطان. وحشير الناس ضحى ليوم الزينة، وجاءوا إليها مستبشرين من أدنى وأقصى كل من في المدينة، وضربت البشائر ويا عجباً! إنها تضرب ومكانتها من القلوب مكينة. حتى إذا أخذت مصر حظها من الهناء قسمت على الأمصار، وأضاء بارق نشرها من كل وجه فسمت بالشامات غرة الأبصار، وركض بريد الخير بمبارك باب البريد ووصل نيل النيل إلى أنهار دمشق فبردى على الشكر ثابت ويزيد، وبشر الإسلام من وجه الخلف الصالح بأكرم من بر، واستفاض الاسم الشريف، فلو كلف مشتاق فوق وسعه لسعى إليه المنبر.
فالحمد لله على أن سر البيت الشريف الناصري بجمع شمله، وعلى أن أتى الملك العقيم الصالح من أهله، وقد جهز المملوك المثال الشريف المختص بمولانا، ومولانا أولى من انتظمت لديه درر هذه الأخبار الثمينة، وعظمت بناحيته شعائر هذه الدولة المكينة، وكمل لخير حماه خير قرينة، والله تعالى يعز الإسلام بعزمه، ويمضي الآجال والأرزاق على يدي حربه وسلمه، وينجز لرأيه ورايته النصر قبل أن يطوف الأولياء بعلمه، وقبل أن يحيط الأذكياء بعلمه. ومن ذلك الكتابة بورود مثال شريف بعافية السلطان الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن الناصر محمد بن قلاوون، في خلافة الحاكم بأمر الله أحمد بن المستكفي بالله أبي الربيع سليمان من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة، وهي بعد الألقاب:
أورد الله عليه من الهناء كل سري يسره، وكل سني يقر أمام ناظره الكريم ويقره، وكل وفي إذا طلع في آفاق حلب قيل: لله دره، ولا زالت البشائر تلقاه بكل وجه جميل، وبكل جلي جليل، وبكل خبرٍ تصح الدنيا بصحته فليس بها عنبر النسيم عليل، تقبيلاً يزاحم عقود الثغور، ويكاد يمنع ضم الشفتين للثم طول الابتسام والسرور، وينهي بعد رفع اليد بدعائه، وضم الجوانح على ولائه، وجزم الهناء المشترك بمسرة مولانا وهنائه، أن المثال الشريف زاده الله شرفاً، وزاد فضل سلطانه على العباد سرفاً ورد بالبشارة العظمى، والنعماء التي ماضاهتها الأيام قبل بنعمى، والمسرة التي يأكل حديثها أحاديث المسرات أكلاً لماً، ويحبها الإسلام والمسلمون حباً جماً، بسلامة جواهر الجسد الشريف من ذلك العرض، وشفائه الذي في عيون الأعداء منه شفار تطعن وفي قلوبهم مرض، وأن مادة الأدواء بحمد الله قد انحسمت، والواردة من الافتقاد بالأجر والعافية قد ابتسمت، وأن ظنون الإشفاق قد اضمحلت، ونسمات الروض قد فدت الجسم الشريف فاعتلت، وأخبار الهناء يعينها بريد نشوان من الفرح ينشد أسائلها أي المواطن حلت، فيا لها بشارة خصت الإسلام وعمت بنيه، وسارت فوق الأرض وسرت تحتها أسلاف الملك ومبتنيه، وشملت البلاد وعبادها، والسلطنة وقد حجب الله عمادها عما دهى، والملك السليماني وقد ثبت الله به على الدنيا من السماء خيمتها ومن الجبال أوتادها، والطير وقد حملت ورقه أوراق السرور، والوحش وقد قالت مهاه: على عيني أتحمل ذلك السقام أو ذلك الفتور، {ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليماً} والألطاف الراحم بها المؤمنين من خلقه {وكان بالمؤمنين رحيماً}.
وكان ورود هذا المثال الشريف على يد فلان، فيا له من وارد لمشارع الأمن أورده، ولروائع الناس عن القلوب حجب أورد، وقد جهزه المملوك بالمثال الشريف المختص بمولانا وهذه الخدمة بعد أن ضربت البشائر مسوغة في كل ضرب من التهاني، وزينت البلد زينة ما نظمت فيها غير العقود أيدي الغواني، فيأخذ حظه من هذه البشرى، ونصيبه من هذا الوجه الذي ملأ الوجود بشراً، وشطره من الهناء المخصوص الذي تعجل منه المملوك شطراً، والله تعالى يسره بكل خير تشرق زواهره، وتعبق في كمائم الدروج أزاهره، ويتألق على يد بريده من المخلفات كل كوكب صبح تملأ الدنيا بشائره. ومن ذلك المكاتبة بورود المثال الشريف بوفاء النيل: إذا ورد على نائب الشام بوفاء النيل المبارك، كتب نائب الشام نفسه إلى نائب حلب وغيره، من نواب السلطنة بالممالك الشامية، بورود المثال الشريف عليه بذلك، ويكتب عنه، كما يكتب عن السلطان، من السجع، وإيراده مورد البشارة، وإظهار الفرح والسرور بذلك، لا يكاد يخالفه إلا في كونه وارداً مورد الحكاية لمثال السلطان، ومثال السلطان مخبر بذلك ابتداء.
وهذه نسخة مثال كريم من ذلك عن نائب الشام من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة، كتب به لسنة ثلاث وأربعين وسبعمائة، وهي بعد الصدر:
لا زالت مبشرة بكل مبهجة، معطرة الأرجاء بكل سائرة أرجة، ميسرة الأوقات بمقدمتي سماع وعيان، كلاهما للمسار منتجة، مستحضرة في معالي الكرم كل دقيقة تشهد بسطة النيل أنها أرفع منه درجة، وينهي بعد الدعاء ما الروض أعطر من شذاه، ولا ماء النيل وإن كرم وفاء بأوفى من جداه، أن المرسوم الشريف زاده الله تعالى شرفاً، ورد بوفاء النيل المبارك وحبذا هم من وفي موافي، ومتغير المجرى وعيش البلاد به العيش الصافي، وحسن الزيارة والرحيل ما ضاهته الغيوث في ولافي، ووارد من معبد بعيد، وحميل لا جرم أن مده ثابت ويزيد، وجائد إذا تتابع حيث تياره يقلد بره ودره من الأرض وساكنها كل جيد، وإذا ذكر الخصب لمكان عيده المشهود ألقى السمع وهو شهيد، وذلك في يوم كذا، وأن البلاد جبرت بكسر خليجه، واستقامت أحوالها بتفريجه، وأثنت عليه بآلائه، ووسمت لونه الأصهب على رغم الصهباء بأحسن أسمائه، وخلق فملأت الدنيا بشائر مخلقه، وعلق ستره المصري التبري فزكا على معلقه، وحلق مسير تراعه على القرى فبات على الندا ضيف نحلقه، وحدث عن البحر ولا حرج، وانعرج على البقاع يلوي معصمه فلله أوقات ذلك اللوى والمنعرج، واستقرت الرعايا آمنين آملين، وقطع دابر الجدب بسعود هذه الدولة القاهرة، {وقيل الحمد لله رب العالمين} ورسم أن لا يجبى حق بشارة، ولا تعبث يد التنقيص منها ليزداد الخبر نوراً على نور، ويكون في إيثاره وحسنه الخبر الحسن المأثور، ووصل بهذا الخبر فلان وعلى يده مثال شريف يختص بمولانا وقد جهز به، فيأخذ مولانا حظه من هذه البشرى، ويوضح بها على كل الوجوه بشراً، والله تعالى يملأ له بالمسرات صدراً، ويضع بعدله عن الرعية إصراً، ويسرهم في أيامه بكل وارد يقول الإحسان لمحتمله: لو شئت لاتخذت عليه أجراً إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة كتاب آخر في المعنى إلى بعض النواب من إنشاء جمال الدين بن نباتة أيضاً، وهي بعد الصدر: وضاعف مواد نعمته ونعمائه، ومسرته وهنائه، وحفظ عليه ما وهبه من المناقب التي يروي النيل عن كرمه ووفائه، وشرف السيوف لكونها من سمات كرمه والسيول لكونها من سمائه.
المملوك يجدد الخدمة بنفحات سلامه وثنائه، ويصف ولاءً لو تجسم لاستمدت عين الشمس من سنائه، وينهي أن المرسوم الشريف زاده الله تعالى شرفاً، ورد مبشراً بوفاء النيل المبارك في يوم كذا، فيا له ربيعاً جاء في ربيع، وحاملاً في مفرده الفضل للجميع، وداعياً بالخصب ينشد كل ثانية اثنين ريحانة للداعي السميع، ومتغنياً على منصة المقياس عرسه يجلى عليه من شباكها الستر الرفيع، وأنه أقبل والبلاد أشهى ما تكون للقياه، وأشوق ما ترى لمباشرة ريه ورياه، وقد امتدت أيدي الجسور لفمه، واستعدت شفاه الحروف اللعس للثمه، فكرم عليها زائره، وصحبها بالنجح ساريه وسائره، ودارت على الجدب من خطوط الأمواج دوائره، وعمت المنافع، وتلقت عيون الفلا ناهلة بالأصابع، وفاض البحر ببره، ونشر رداء على الأرض وسيضوع روضها بنشره، وخلق المقياس فيا لك من قياس بشرى غير ممنوع، وكسر الخليج فيا له غصن قلم على النيل وطائر سجعه على الفرات مسموع، ورسم أن لا يجبى حق بشارة، ولا يدخل فيها النقيص لدار ولا التنغيص لدارة، ووصل بهذا الأمر فلان وقد جهز بما على يده، والله تعالى يمتع مولانا من أقسام المسار بصنوف، ويدفع عن حصون الإسلام بيمنه أيدي الصروف، وينفعها بظلاله التي آواها الكريم إلى جنة، وكذلك الجنة تحت ظلال السيوف.

.الضرب الرابع من المكاتبات السلطانية: ما يكتب عن النواب والأتباع إلى الخليفة أو السلطان:

وفيها مهيعان:
المهيع الأول في الأجوبة عن الكتب السلطانية السابقة في الضرب الأول:
قد تقدم في الكلام على مقدمة المكاتبات في أول هذه المقالة ذكر الخلاف: عليه السلام هل الكتب الابتدائية أعلى رتبة في الإتيان بها أم الجوابية؟ وذكر الاحتجاج لكل من المذهبين، وذكر التحقيق في ذلك، فليراجع من موضعه هناك. ونحن نذكر الكلام على أجوبة الكتب السابقة على الترتيب المتقدم، جارين في ذلك على ما قرره في مواد البيان.
فأما الجواب عن الكتاب الوارد بانتقال الخلافة إلى الخليفة، فإن الكتاب إن كان متضمناً التعزية في سلفه، والهناء بمتجدد النعمة عنده في انتقال الخلافة إليه فالرسم فيما يكاتب به عن الحليفة أن يبنى على الاستبشار بالنعمة في خلافته، والمسارعة بإخلاص الضمير إلى الدخول في طاعته وبيعه، وانفساح الآمال في دولته، والشكر لله تعالى على جبر الوهن وعلو كلمة الإسلام والمسلمين بدعوته، وتعزية عن أبيه، بما يوجبه محل المحنة ويقتضيه، يعني إن كان الخليفة الميت أباه، فالدعاء له بأن ينهضه الله تعالى بما حمله، ويهينه على ما كفله، ويقرن ملكه بالجد السعيد، والخلود والتأييد، وإدالة الأولياء، وإذالة الأعداء، ونحو هذا مما يجاريه.
وإن كان الكتاب الوارد بانتقال الخلافة إليه عن أبيه، ومن في معناه ممن يواليه في المحبة، فإن الكاتب يحوم في الجواب على ما حصل بذلك من صلاح حال الأمة، واستقامة أمر الرعية بانتقال الخلافة إليه من غير أن يصرح بذم الذاهب قبله. ولا يخفى أن الجواب عن ورود الكتاب بانتقال السلطنة إلى السلطان وجلوسه على تخت الملك في معنى الجواب في انتقال الخلافة إلى الخليفة، لا يكاد يفرق بينهما، على ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
وأما الجواب عن الكتب الواردة بالدعاء إلى الدين، فإنما يتكلفها كتاب مخالفي الملة، لأنها إنما تصدر إليهم. قال في مواد البيان: إلا أنه لا غنى لكتاب الإسلام عن علم ما يقع فيها، لتتقدم عندهم المعرفة بما يجيب به المخالفون، فيأخذوا عليهم بأطراف الحجة إذا كاتبوهم ابتداء أو جواباً. قال: ولا تخلو أجوبة هذه الكتب من أربعة معان: أحدها: إجابة الدعاء إلى الدين، وقبول الإرشاد والهدى، والنزوع عن الغي، والإقبال على التبصرة والتذكرة، بعقائد خالصة، ونيات صريحة.
والثاني: الإصرار على ما هم متمسكون به، وتمحل الشبهة في نصرته، وادعاء الحق فيما يعتقدونه، والمغالطة عن الإجابة إلى قبول ما دعوا إليه.
والثالث: بذل الجزية والمصالحة، والجنوح إلى السلم والموادعة.
والرابع: إظهار الحميمة، والقيام في دفاع من يروم اقتسارهم على مفارقة شرائعهم وأديانهم، وبذل الأنفس في مقارعته.
وأما الجواب عن الكتب الواردة بالحث على الجهاد، فقد ذكر في مواد البيان أنها لا تخرج عن معنيين: أحدهما: إجابة الصريخ، والمبادرة إلى التشمير في الجهاد، والقيام في معونة الأولياء، على كفاح الأعداء.
والثاني: الاعتذار والتعلل والتثاقل.
هذا إن كانت الكتب الصادرة إلى القواد والمتقدمين، أما إذا كانت مقصورة على الاستنفار، فلا جواب لها إلا النفور أو الإمساك. قال في مواد البيان: والطريق إلى إقامة العذر للمستصرخ في التأخر عن مستصرخه، متى أراد الاعتذار عنه صعب على الكاتب، ولا سيما إذا كانت الأعذار متكلفة غير صحيحة.
قال: وينبغي أن يتأتى لذلك ويحسن التلطف فيه، ولا يعتل بكذب صراح ينكشف للمعتذر إليه.
وأما الجواب عن الكتب الواردة بالحث على لزوم الطاعة، إذا وردت على النواب والولاة وأمروا بقراءتها في أعمالهم على الرعايا، فإنه يكون: إما بانقياد الرعايا إلى ما دعوا إليه، أو استدامتهم لمركب النفاق، واستدعاء مادة لتقويمهم. وأما الجواب عن الكتب إلى من نكث عهده من المتعاهدين، فقد ذكر في مواد البيان أنها لا تخلو من أحد أربعة معان: أولها: الاعتذار والاستقالة من مراجعة النكث، والرغبة في الصفح عن النبوة، والمسامحة بالهفوة.
والثاني: المغالطة والمراوغة، واستعمال المداهنة والمخادعة.
والثالث: التجليح والمكاشفة.
والرابع: إيجاب الحجة على المجوب عنه في أنه المبتدئ بفسخ ما عاقد عليه. قال: والكاتب إذا كان ماهراً كسا كل معنى من هذه المعاني الغرض اللائق به في الصناعة.
وأما الجواب عن الكتب إلى من خلع الطاعة، فقد قال في مواد البيان: إنها تحتمل معنيين: أحدهما الاعتذار، والآخر الإصرار، وكل واحد منهما محتاج إلى عبارة لائقة به، ثم قال: والكاتب إذا كان حاذقاً، عرف سبيل التخلص فيها بمشيئة الله تعالى. وأما الجواب عن الكتب الواردة بالفتوح، فإنها إن صدرت من السلطان إلى ولاته، فينبغي أن يبنى جوابها على الاستبشار بموقع النعم في الظفر بالعدو، والجذل بمتجدد الفتح، وأن ذلك إنما تهيأ بسعادته، وعلو رأيه وانبساط هيبته، وما عوده من إظهار أوليائه، وخذلان أعدائه، وأنهم قد أشاعوا هذا النبأ في الخاصة والعامة من رعاياه فابتهجوا به، وشكروا الله تعالى عليه ودعوا له بصالح الدعاء. وإن صدرت من ولاة الحرب إلى السلطان، فينبغي أن يكون ما يجيبهم به مبنياً على حمد الله تعالى على عوارفه، والرغبة في مضاعفة لطائفه، وشكره على إنجاز وعده في الإظفار بأعداء الملة والدولة ونحو هذا. ومخاطبة أهل الطاعة بما يرهف عزائمهم، ويقوي شوكتهم، وتقريظ والي الحرب ووصفه بما يشحذ بصيرته في الخدمة، والثناء على الأجناد، ووعدهم بجزيل الجزاء على الجهاد والإبلاء، إلى غير هذا مما يقتضيه الحال، ويوجبه تدبير الأمر الحاضر.
وأما الجواب عن الكتب الواردة بالاعتذار عن السلطان عندما يحصل له زلل في التدبير أو في الظفر بقبض الأعداء على جيش من جيوشه، فإنما تقع الإجابة عنها إذا نفذت إلى أحد العمال خصوصاً. قال في مواد البيان: وحينئذ فينبغي أن يكون الجواب عنها مبنياً على تقوية نفس السلطان وتوثيقه بالأدلة، وأن ما ناله لا يتوجه كثيراً على ذوي الحرام، إلا أن عواقب الفلج والظفر والإصابة في الرأي والتدبير تكون لهم، ونحو هذا مما يجاريه ويليق به. قال: أما إذا كانت المكاتبة في ذلك إلى الكافة، ممهدة لعذر السلطان، قاطعة قالة الرعية عنه، فإنه لا جواب عنها، لأنها إذا لم توجه إلى واحد بعينه لا يستدعي خطاباً.
وأما الجواب في الكتب الواردة عن السلطان بالنهي عن التنازع في الدين، إذا صدرت إلى العمال، وأمروا بقراءتها على الرعايا على منابر أعمالهم، فإنه يبنى الأمر فيها على امتثال الأمر، والمطالعة بارتسام القوم ما رسم لهم فيها. أما إذا كانت صادرة لتقرأ على العامة ليبصروا ما فيها ويعملوا عليه، فإنه لا جواب عنها، لأنها إنما تشتمل على مواعظ ومراشد تتخول بها الأئمة رعاياهم.
وأما الجواب عن الكتب الواردة بالأوامر والنواهي، فقد ذكر في مواد البيان أن الكتب الواردة في ذلك، إن كان شيئاً قد جزم المتبوع فيه الأمر، وضيق على التابع في إيثاره سبيل المراجعة فيه، فإن الجواب عنه سهل، لأنه إنما يجب بجواب جامع، وهو وقوفه على ما أمر به وإنفاذه له. وإن كان الوارد أمراً محتملاً للمراجعة، من حيث أن إمضائه إذا أمضي إفساداً للعمل، وإخلالاً بأسباب الملك والسلطان، فالجواب عنه شاق صعب، لأنه ينبغي أن يبنى على تلطف شديد في الإبانة عما ينتجه ذلك المأمور به إذا أنفذ على الوجه من فتق وخلل، ومورد المراجعة في ألفاظه لا يتبين فيه إزراء على رأي الرئيس ولا طعن في تدبيره، بأن يكون ناطقة بأن رأيه الأعلى، وتدبيره الأصوب، فيكون باطن الكلام توقيفاً على الصواب، وظاهره تصويباً وتقريظاً، لأن كثيراً من الرؤساء والملوك يعجبون بآرائهم، وينزلون بحكم الرياسة في منزلة من لا يراجع ولا يعارض فيما يأمر به.
قال: وقد تأتي من كتب الأوامر كتب يأمر الرئيس فيها المرؤوس بشرح حال واقتصاص أمور. ثم قال: وأجوبة هذه الكتب يجب أن تكون مستقصية للمعنى المنشرح، مستولية على حواشيه، غير مخلة بشيء مما يحتاج إلى تعرفه منه. وأما الجواب عن الكتب الواردة عن الإمام عند حدوث الآيات السماوية، وهي مشتملة على مواعظ ومراشد يتخول بها الأئمة رعاياهم، فإذا صدرت إلى العمال وأمروا بقراءتها على الرعايا، فأجوبتها إنما تبنى على امتثال الأمر والمطالعة بارتسام القوم ما رسم لهم فيها. أما إذا كانت صادرة لتقرأ على العامة ليتبصروا بما فيها ويعملوا عليه، فإنه لا جواب عنها.
وأما الجواب عنه بالتنبيه على مواسم العبادة، فإنه يصدر عمن ورد عنه إلى الإمام بعد شهور ذلك الموسم، والانفصال عنه على حال السلامة، كما في صلاة العيد ونحوها، قال في مواد البيان: وأجوبتها تصدر إلى الخلفاء مقصورة على ذكر ما من الله تعالى به من قضاء الفريضة على حال الائتلاف والاتفاق، وشمول الأمن والهدي والسكون، وسبوغ النعمة على الكافة، وأن ذلك بسعادة وعناية الله تعالى بدولته وبرعيته، ونحوها مما يقتضيه المعنى.
وأما الجواب عن الكتب الواردة عن الإمام إلى ولاة أمره بالسلامة في ركوب أول العام وغرة رمضان، والجمعة الأولى والثانية والثالثة منه، وعيدي الفطر والأضحى، وفتح الخليج بعد وفاء النيل، فقد قال في مواد البيان: إنه إن كان الكتاب عن السلامة في صلاة العيدين أو جمع رمضان، فينبغي أن يكون مبنياً على ورود كتبه متضمنة ما أعان الله تعالى عليه أمير المؤمنين من تأدية فريضته، والجمع في صلاة عيد كذا برعيته، وما ألبسه الله تعالى من الهدي والوقار، وأفاضه عليه من البهاء والأنوار، وبروزه في خاصته وعامته إلى مصلاه، وسماع خطبته وعوده إلى قصره الزاهر، وعليه تلألأ القبول لصلاته ودعائه، مما أجراه الله تعالى فيه على عادة آلائه، ووقف عليه وقابله بالشكر والإحماد، والاعتراف والاعتداد، وافتضه على رؤوس الأشهاد، فأغرقوا في شكر الله تعالى على الموهبة في أمير المؤمنين، ورغبوا إليه إطالة بقائه مرامياً عن الإسلام والمسلمين، ونحو هذا مما يجاريه.
ثم قال: فإذا نفذت هذه الكتب من العمال إلى أمير المؤمنين مبشرة باجتماع رعاياه لتأدية فريضتهم، وعودهم إلى منازلهم سالمين، فينبغي أن يكون الجواب عنها: وصل كتابك متضمناً ما لا يزال الله تعالى يوليه لأمير المؤمنين في رعيته، وخاصته وعامته، من اتفاق كلمتهم، وائتلاف أفئدتهم وسلامة كافتهم، وما من الله به عليه وعليهم من اجتماعهم لتأدية فريضتهم، وعودهم إلى منازلهم، على السلامة من ضمائرهم، والطهارة من سرائرهم، فحمد أمير المؤمنين الله تعالى على ذلك وسأله مزيدهم منه، وتوفيقهم لما يرضيه عنهم، وشكر مسعاك في سياستهم، وامتداد يدك في إيالتهم، وهو يأمرك أن تجري على عادتك، وتسير فيهم بجميل سيريك، وما يليق بهذا.
ثم بنى على ذلك سائر كتب السلامة، وقال: ينبغي أن يستنبط من النفس كل كتاب منها المعنى الذي يجب الإجابة به، مثل أن يكون الكتاب ورد من أمير المؤمنين إلى أحد عماله، مبشراً بسلامته من سفره، فينبغي أن يبنى جوابه على ما صورته: ورد كتاب أمير المؤمنين مبشراً عبده بما هيأه الله تعالى له من السلامة ويمن الوجهة، مع تقريب الشقة، وإنالة المسار، وتسهيل الأوطار، وإدناء الدار، فوقف العبد عليه، وامتثل المرسوم في إطلاع الأولياء على ما نص فيه من هذه البشرى، فعظمت المنحة لديهم، وجلت النعمة عندهم، وانشرحت صدورهم، وانفسحت آمالهم، ووقفوا بصنع الله تعالى لهم، وارتفعت أيديهم إلى الله سبحانه بالرغبة في حياطة أمير المؤمنين قاطناً وظاعناً، وحسن صحابته حالاً وراحلاً، وجميل الخلافة على من خلفه من حامته وعامته، وأهل دعوته وخاصة دولته، والله تعالى يجيب في أمير المؤمنين صالح الدعاء، ويمده بطول البقاء. وما ينتظم في سلك هذا الكلام ويضاهيه.
قلت: وقد تقدم في الكلام على المكاتبة السلطانية الابتدائية، أن المكاتبة بالبشارة بالسلامة في ركوب العيدين وما في معناهما من قدوم السفر وغيره، قد ترك استعماله بديوان الإنشاء في زماننا. فإن قدر مثله في هذه الأيام أجراه الكاتب على نحو ما تقدم، على ما تقتضيه مصطلح الزمان في المكاتبات السلطانية.
وأما الجواب عن الكتب الواردة بالخلع وما في معنى ذلك، فينبغي أن يكون مبنياً على تعظيم المنة، والاعتراف بجزالة المنحة، وجميل العطية، وزائد الفضل، وأن ما أسدي إليه من ذلك تفضل عليه، وتطول من غير استحقاق لذلك، بل فائض فضل، وجزيل امتنان، وأنه عاجز عن شكر هذه النعمة والقيام بواجبها، لا يستطيع لها مكافأة غير الرغبة إلى الله تعالى بالأدعية لهذه الدولة، وما يناسب ذلك من الكلام ويلائمه.
وأما الجواب عن الكتب بالتنويه والتقليب إذا صدرت إلى نواب المملكة، فالذي ذكره في مواد البيان أن المنوه به يجيب عما يصله من ذلك بوصول الكتاب إليه، ووقوفه عليه، ومعرفته بقدر العارفة مما تضمنته الرغبة إلى الله تعالى في إيزاعه الشكر، ومعونته على مقابلة النعمة بالإخلاص والطاعة. أما إذا كتبت بالتنويه والتقليب لأحد من المقيمين بحضرة الخلافة، فإنه لا جواب لها.
وأما الجواب عن الكتب الواردة بالإحماد والإذمام، فيختلف الحال فيه، فإن كان الكتاب الوارد بالإحماد والتقريظ، فجوابه مقصور على الشكر الدال على وقوع ذلك الإحماد موقعه من المحمود، ومطالبته لنفسه بالخروج من حقه باستفزاع الوسع في الأسباب الموجبة للزيادة منه. وإذا كان الكتاب بالإذمام، فإن كان ذلك لموجدة بسبب أمر بلغه عنه من عدو أو حاسد نعمة أو منزلة هو مخصوص بها من رئيسه، كان الجواب بالتنصل والمقابلة بما يبرئ ساحته، وأن يورد ذلك بصيغة تزيل عن النفس ما سبق إليها، وتبعث على الرضا. وكذلك في كل واقعة بحسبها، مما يحصل به التنصل والاسترضاء ونحو ذلك.
وأما الجواب عن الكتب الواردة مع الإنعام السلطاني، فعلى نحو ما سبق في الخلع، من تعظيم المنة، والاعتراف بجزالة المنحة، وجميل العطية، وزيادة الفضل، وما في معنى ذلك مما تقدم ذكره.
وأما الجواب عن الكتب الواردة عن الخليفة أو السلطان بتجدد ولد، فإنه يكون بإظهار السرور والاغتباط، وزيادة الفرح والسرور بما من الله تعالى به من تكثير العدد، وزيادة المدد، والرغبة إلى الله تعالى أن يوالي هذا المزيد ويضاعفه. ونحو ذلك مما يجري هذا المجرى.
وأما الجواب عن الكتب الواردة بعافية الخليفة أو السلطان من مرض كان قد عرض له، فطريقه حمد الله تعالى وشكره على ما من الله تعالى به من العافية، وتفضل به من إزاحة المرض، ووقاية المكروه، وإظهار الفرح والسرور بذلك. وما ينخرط في هذا السلك.
وأما الجواب عن الكتب الواردة بالتعزية بولد أو قريب، فإنه يظهر فيه الغم والحزن والكآبة، وحمد الله تعالى على سلامة نفسه، والرغبة إلى الله تعالى في الخلف عليه، إن كان الميت ولداً، مع الدعاء بطول البقاء وخلود الدولة، وما يجري هذا المجرى. وهذه نسخ أجوبة عن مكاتبات سلطانية، مما يكثر وقوعه، ويتعدد تكراره، يستضيء بها الكاتب في كتاب الأجوبة، ونسخ على منوالها.
نسخة جواب عن كتاب وصل من الخليفة بانتقال الخلافة إليه، كتب به إلى أمير الأمراء، قرين خلعة وسيف وتاج وسوارين، من إنشاء أبي الحسين بن سعد، وهو:
فإن كان سيدنا أمير المؤمنين، بما أعلم من فضل مراعاته لأمور الدين، وصدق عنايته بمصالح المسلمين، وأفيض له من مواهب الله عندهم، وصنوف نعنه عليهم، فيما هداه من طرق الرشاد، وبصره إياه من مناهج الصواب، وقرنه به من التوفيق في عزائمه، والجد في مراسمه، وتوعده فيه بالخيرات التامة، والكفاية العامة، في كل أمر يمضيه، ورأى يرتئيه، اعتماداً له بحسن المعونة على ما استرعاه، ووصله بالمزيد فيما خوله وأعطاه، وحراسة ما ساقه إليه من إرث النبوة، وحمل إياه من ثقل الإمامة، لما عرفه من نهوضه بالعبء، وقيامه بالحق فيما ناطه وأسنده إليه، وتأمله ما تأمله من حال عبده الذي لم يزل لطاعته معتقداً، وبعصمة ولايته معتضداً، ولوقت يبلغه منزلة الإحماد، ويحوز له عائدة الاجتهاد، فيما أرضاه مرتصداً، ولسعيه ونيته، وظاهره وطويته، معتمداً، ووجوده أيده الله في يسير ما امتحن به بلاءه، وعرف فيه غناءه، موضعاً للصنيعة، محتملاً للعارفة، مقراً بحق النعمة، عارفاً بقدر الموهبة، وترقبه فرصة ينتهزها في إبداء عزمه، وإمضاء رأيه، وأنه واثق بالاستظهار بمكانه، والإسهام له في عز سلطانه، حتى أسفرت رويته، واستقرت عزيمته، فاختص عبده بجميل الأثر، واصطفاه بلطيف الحظوة، واعتمد عليه في إمارة الأمراء، موفياً به على رتبة النظراء، وكاسياً له حلة المجد والسناء، ورد إليه تدبير الرجال، وتقدير أمور العمال، وشفع ذلك بالتكنية والتلقيب في مشاهد حفلته، ومجالس خطوته، وأكمل الصنع عنده بإلحاق عبده فيما قسم لكل واحد منهما من شريف حبائه، وسني عطائه، وتجاوز في التكرمة له إلى أعلى الأحوال، وأرفع الرتب والمحال، فيما أمر- أعلى الله أمره- بحمله إليه من الخلعة التي يبقى شرف لباسها على الأيام، ويخلد ذكرها على الدهور والأعوام، والسيف الذي تفاءل لعبده فيه بما يرجو يمن مولاه وسعادة جده، أن يحققه الله في الاعتماد به على أعدائه، وغمده في نحور مشاقيه وغامصي نعمائه، والتاج المرصع الذي نظم له جوامع الفخر، والوشاح الموشى الذي وشحه حلية الجمال مدى الدهر، والطوق الذي طوقه قلائد المجد، والسوارين اللذين آذناه بقوة العضد وبسطة اليد، واللواء المعقود به مفاتح العز في طاعته، المرفوع به معالم النصر على شانئ دولته، ووصل إلي وفهمته.
وسيدنا أمير المؤمنين فيما أكرمه الله به من خلافته، وأتمنه من الحكم على بريته، ووكله إليه من حقوق الدين، وحياطته كرم المسلمين، وإحياء السير الرضية، والسنن الحميدة، وإماطة الأحكام الجائرة، والمظالم الظاهرة، وتقويم أود المملكة بعد تزعزع أركانها، وتصدع بنيانها، وإعزاز الأمة وإيناسها، بعد أن اشتملت الذلة عليها وتمكنت الوحشة فيها، وحكم اليأس في آمالها، وغلب القنوط على أطماعها، وتفاءل بما اعتمده له، وفوضه إلى نظره، من الحلية بحقائقه، والتوكيد بما لم تزل المخايل فيه لائحة، والأمارات منه واضحة، والشواهد به صادقة، والدلائل عليه ناطقة، حتى تدارك بنعمة الله الدين بعد أن طمس مناره، وتعفت آثاره، ودرست رسومه، وغارت نجومه، وأنحى الشيطان بجرانه، واشرأب لتبديله بعدوانه، وانتدب لنصرة الإسلام برأي يستغرق آراء الرجال، وحلم يستخف رواسي الجبال، وروية تستخرج كوامن الغيوب، وتكشف عنها حنادس الشكوك، وباع لما يمتد إليه بسيط وذراع لما ينتظم عليه رحيب، وصدر يتسع لمعضلات الأمور، ويشرق في مدلهمات الحوادث، فشرد أعداء الله بعد أن اتصلت بهم مهلة الاغترار، وتطأولت بهم مدة الإصرار، ومد رواق الملك وضرب قبابه، وثبت أواخيه وأحصد أسبابه، وقطع أطماع الملحدين، وأبطل كيد الكافرين، وفت في أعضاد المنابذين، فتحصنت البيضة، واجتمعت الكلمة، واتفقت الأهواء المتفرقة، وانتظمت الآراء المتشعبة، وسكنت الدهماء المضطربة، وقرت القلوب المنزعجة، وصدقت خواطر الصدور المثلجة، وظهر الحق ورسخ عموده، وبهر جماله ونضر عوده، ونشرت أعلامه وطلعت سعوده، وعز أولياؤه ونصرت جنوده، وساخ بالباطل قدمه، وانقطعت وصائله وعصمه، وانبتت حباله ورممه، وانحلت أسبابه وذممه، حقيق بما بان من فضله، واستفاض من الأمة من عدله، وعم كافة الرعية من طوله، ووصلت إلى الملي والذمي والداني والقاصي عائدة الخير في أيامه، وفائدة الأمن بمملكته وسلطانه، ومأمول لأفضل ما بدا لعبده من ثمرة اجتبائه واصطفائه، وما تغمده به من النعم العظيمة، والمواهب الجسيمة، وأسبغه عليه من العوارف السنية، ورفعه إليه من المنازل العلية، التي تقصر عنها همم ذوي الأقدار، وتقف دونها آمال أولي الأخطار، مقدماً له على أهل السوابق من أنصار دولته، وأشياع دعوته.
فلو ترافدت ألسن العباد- أيد الله أمير المؤمنين- على اختلاف لغاتهم، وتباين طبقاتهم، وتفاوت حالاتهم، في مقابلة نعمة سيدنا التي أعشى العيون بهاؤها، وتأدية حقوقه التي أعيا المجتهدين قضاؤها، لكانت حيث انتهت، وأنى تصرفت، على استفراغ القدرة واستنفاذ الطاعة، غير متقاربة حداً من حدودها، ولا مؤدية فرضاً من فروضها، وإذا كان الأمر على ذلك- أيد الله أمير المؤمنين- في فوت الإحسان مقادير الشكر، وإيفائه على مبالغ الوسع، فقصد عبده في جبر النقيصة، وسد الخلة، والازدياد في الطاعة، والإخلاص في المولاة والمشايعة، وإدامة الابتهال إلى الله تعالى، ورفع في المعونة عبد أمير المؤمنين على مجافاة بلائه، والتفرد بجزائه، وتجديد المسألة في إطالة بقائه، في عز لا تبلى جدته، وسلطان لا تنتهي مدته، ومواد من مناسجه وموائده، وروادف من عوائده، متظاهرة لا ينقطع منها أول حتى يلحق تاليه، ولا ينصرم سالفه حتى ينصرف آتيه، ويكون المآل بعد استيفاء شروط الأمل، وتقضي حدود المهل، إلى النعيم المقيم، في جوار العزيز الكريم.
ومن تمام إفضال سيدنا على عبده، ونظام معروفه عنده، بدؤه إياه بما يمتحن به خفة نهضته، وسرعة حركته، وقعوده لأمره بحد حديد، وبعيش عتيد، وصمده لما يحظيه لذلك مولاه، ويجوز له حمده ورضاه، بصدق بصيرة، وخلوص سريرة، واستسهال لكل خطة، وتجشم لكل مشقة، دنت المسافة أم شسعت، قربت الطية أم نزحت، وسيدنا أهل لاستتمام يد ابتداها، وإكمال عارفة أنشأها وكرامة ابتناها، باستعمال عبده بأمره ونهيه، واعتماد لمهماته بحضرته وفي أطراف مملكته، إن شاء الله تعالى.
قلت: وهذه نسخة كتاب أنشأته ليكتب به إلى أمير المؤمنين المستعين بالله، أبي الفضل العباس خليفة العصر، عن نائب الغيبة بالديار المصرية، حين وردت كتبه الشريفة من الشام إلى الديار المصرية بالقبض على الناصر فرج بن الظاهر برقوق بالشام، واستبداده بالأمر دون السلطان معه، في أوائل سنة خمس عشرة وثمانمائة، مفتتحاً له بيقبل الأرض التي يكاتب بها الملوك. وإن كان قد تقدم من كلام المقر الشهابي بن فضل الله أن المكاتبة إلى أبواب الخلافة بالدعاء للديوان، لا يختلف فيه ملك ولا سوقة، وهو: يقبل الأرض وينهي ورود المثال الأشرف الميمون طائره، المرقوم على صفحات الأفلاك تهانيه المحمول على متن الحساب بشائره، الشاهد بالفتح المبين أوائله وبالنصر العزيز أواخره، متضمناً ما من الله تعالى به من جميل الصنع الذي وكفت بالخير سحائبه، وخفي اللطف الذي بهرت العقول عجائبه، بما منح الله تعالى به مولانا أمير المؤمنين مد الله تعالى الإسلام وارف ظله، وأنام الأنام بمد رواق الإمامة المعظمة في مهاد عدله، ومكن له في الأرض كما مكن لآبائه الخلفاء الراشدين من قبله، من جلوسه على سدة الخلافة المقدسة التي وصل منقطع حديثها بإسناده، حاز منها بأشرف مقعد تراث آبائه الكرام وأجداده، وابتسم ثغر الخلافة بعباسه، وتآنس منها جانب الدين بعد الاستيحاش بإيناسه، فقبل المملوك له الأرض خاضعاً، ولبى أوامره الشريفة ضارعاً، وأجاب داعيه بالامتثال سامعاً طائعاً، وسجد سجود الشكر لذلك فعرف بسيماه، وانتسب إلى الولاة الشريف الإمامي انتساباً شاملاً لاسمه ومعناه، وأعلم من قبله من الأمراء والأجناد بذلك فقابلوه بالاستبشار طراً، وتلقوها تلقياً يليق بمثلها وإن كان لا مثل لهذه البشرى، وقرئت المطلقات الشريفة على المنابر فسكنت الدهماء وقرت، وسرت ألفاظها إلى الأسماع الشيقة فسرت، وكررت ألفاظها العذبة مراراً فحلت لدى النفوس إذ مرت، وارتفعت الأصوات بالدعاء بدوام هذه الدولة النبوية دواماً لا يستشعر مستشعر خلافته، فحقيق ظهور معجزة أكرم مرسل بعد الثمانمائة بقوله لعمه العباس: ألا أبشرك يا عم، بي ختمت النبوة وبولدك تختم الخلافة.
وهذه نسخة جواب عن نائب طرابلس عن مثال شريف ورد بوفاة السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون واستقرار ولده السلطان الملك الناصر أبي بكر مكانه في الملك بعهد من أبيه، من إنشاء القاضي تاج الدين بن البارنباري، بعد التعزية بأبيه السلطان الملك الناصر، وهي: وينهي ورود المرسوم الشريف شرفه الله تعالى وعظمه، يتضمن أمر المصاب الذي كادت لوقوعه الأرض تتزلزل بأهلها، والعقول تتزيل عن محلها، وبلغت القلوب الحناجر، واستوحشت القصور واستأنست المقابر، وتصدعت له صدور السيوف رؤوس المنابر، وقصم الظهور، وشيب السود من الشعور، وجرع كؤوسه، وصدع الحوزة المحروسة، وذلك بما قدر الله تعالى من انتقال مولانا السلطان السعيد، الشهيد، والد مولانا السلطان- خلد الله ملكه- إلى رحمته ورضوانه، فأجرى المملوك عوض الدموع دماً، وأقام الإسلام والمسلمون عليه مأتماً، وتغير البدر المنير لفقده فأمسى مظلماً، وندبه الإسلام في سائر محاريبه ومصلاه، وأسف عليه البيت الحرام وركناه، إنا لله وإنا إليه راجعون، {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}.
لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، أشرق منها ذلك اليوم كل شيء، ويوم قبض أظلم منها كل شيء، وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه أثبت الناس يوم وفاته صلى الله عليه وسلم، وهو الخليفة من بعده، ومولانا السلطان الشهيد- قدس الله روحه- كان متشرفاً باسم نبيه، ومتبركاً في ذريته الشريفة بذكر سميه، ولو ذابت المهج أسفاً عليه لما أنصفت، وقد أسفت عليه الأمم بأسرها وحق لها أن أسفت، نبتت لحومنا من صدقاته، وغمرت المملوك مجزلات هباته، وما نقل من قصره إلا إلى جنات النعيم، وما فارق ملكه إلا وبات في جوار الله الكريم، وكان سلطاننا وهو اليوم عند الله سلطان، فسقى الله عهده صوب الرحمة والرضوان.
وبحمد الله قد جبرت القلوب المنصدعة بجلوس مولانا السلطان- خلد الله ملكه- على تخت السلطنة المعظمة والله معه، وما جلس على كرسي الملك إلا أهله، ولا قام بأمر المسلمين إلا من علم فضله، ومولانا السلطان وارث الملك الناصري المنصور حقاً، والقائم بشأن السلطنة غرباً وشرقاً، وخلاصة هذا البيت الشريف زاده الله نصراً، وأدام ملكه دواماً مستمراً، والعيون الباكية قد قرت الآن بهذه البشرى، والقلوب الثاكلة قد ملئت بهجة: إن مع العسر يسرا، واستقر الإسلام بعد قلقه، ونام على جفنه بعد أرقه، واستقبلت الأمة عاماً جديداً وسلطاناً منصوراً سعيداً، واستبشرت القبلتان، وتناجى بالمسرة الثقلان، والذين كفروا أمسوا خائبين، والذين آمنوا أضحوا فرحين، {هو الذي أيدكم بنصره وبالمؤمنين} ومولانا السلطان هو العريق في سلطنة الإسلام، والإمام الأعظم بن الإمام، فخلد الله ملكه ما دامت الأيام، وأحسن عزاءه في خير سلطان الأنام، وابتهلت الألسنة بالتراحم على مولانا السلطان الشهيد- قدس الله روحه- بدموع سائلة، وقلوب موجوعة بجراحات النياحات ثم عوضوا بالمسرات الكاملة، والدعاء مرفوع لمولانا السلطان- خلد الله ملكه- براً وبحراً، والبلاد مطمئنة والعساكر على ما يجب من التمسك بالطاعة الشريفة، والتشريف بإقبال دولة سلطانهم، ووارث سلطانهم، وكان المملوك يود لو شاهد مولانا السلطان- خلد الله ملكه- على ذلك السرير والمنبر، وقبل الأرض بين يدي المواقف المعظمة والمقام الأكبر، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة جواب عن ورود المثال الشريف بركوب السلطان بالميدان والإذن للنواب في لعب الكرة، وهي: ينهي ورود المثال الشريف شرفه الله تعالى وعظمه، يتضمن الصدقة التي أجرت أولياءها على أجمل عادة من الاحتفال، والمراحم الشاملة التي وسعت لهم كرمها سافرة عن أوجه الإقبال، والبشرى التي جمعت من أنواع المسرات ما بلغته الآمال، وهو أن الركاب الشريف استقل إلى الميدان السعيد نهار السبت في كذا من شهر كذا، في أسعد طالع وأيمن وقت مطاوع، وفي الخدمة الشريفة من الأمراء- كثرهم الله تعالى- من جرت العادة بهم من كل كمي مقنع، قد لبس من الطاعة برداً وبالإخلاص تدرع، وامتطى من فائض الصدفات الشريفة صهوة سابق قد شمر للسباق ذيلاً، وفر كبرق لمع ليلاً.
وأن مولانا السلطان- خلد الله ملكه- طلع عليهم طلوع البدر عند الكمال، وحوله الممالك الشريفة كالأنجم الزاهرة التي لا تعد ولا تشبه بمثال، والجياد لا يرى لها أثر من الركض، والكرة تتشرف بالصولجان كما تتشرف بالتقبيل الأرض، وعاد الركاب الشريف- زاده الله شرفاً وعظمه- إلى القلعة المنصورة، إلى محل المملكة الشريفة، وقد دست السلطنة المعظمة محفوفاً من الله تعالى بلطفه له معقبات من بين يديه ومن خلفه.
وما اقتضته الآراء الشريفة، والمراحم المطيفة، وآثرت به إعلام المملوك بذلك، والمرسوم الشريف- شرفه الله تعالى وعظمه- أن يتقدم المملوك بالنزول إلى ميدان فلانة المحروسة، ومعه مماليك مولانا السلطان- خله الله تعالى ملكه- والأمراء، فقابل المملوك هذه الصدقات، بتقبيل الأرض ورفع الدعوات، وجمعوا بين الكرة والصولجان، وحصل لهم من المسرات ما لا يحصره بيان، وانبسطت نفوسهم إذ أصبحوا في أمن وأمان، وابتهلوا إلى الله تعالى بدوام هذه الأيام التي نوعتهم بأنواع الإحسان، وضجوا بالأدعية لمولانا السلطان- خلد الله ملكه- التي عمت مواهبه وفاق بمكارمه الماضين، وأربى على سلفه الشريف بالعطاء والتمكن، جعل الله أعداءه تحت قهره إلى يوم الدين، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة جواب بوفاء النيل المبارك كتب به عن نائب طرابلس، وهي:
وينهي ورود المثال الشريف- شرفه الله تعالى وعظمه- الذي أشرقت أنوار تهانيه، وتألقت بروق ألفاظه ومعانيه، فبشرت بفيض فضل الرحمة، وعموم الرعايا بتواتر عميم النعمة، ووفاء النيل المبارك الذي ما برح في هذه الأيام الزاهرة يفي بعهده، ويسل سيف الخصب من غمده، ويقتل المحل بحمرة متنه وجوهر حده، مهنئاً للأولياء بهذه الدولة التي أصبحت قلوبهم مطمئنة بالأمن والرخاء، مسرورة بما من الله به من ترادف الآلاء وعموم النعماء، وحال ما ورد المرسوم الشريف- شرفه الله تعالى وعظمه- بادر المملوك إلى امتثال المرسوم الشريف بتقبيل الأرض والسمع والطاعة، وأخذ كل حظه من هذه البشرى، التي عمت تهانيها براً وبحراً، وجعلت أمور هذه الأمة بيمن بركة هذه الأيام الشريفة بعد عسر يسراً، وقد عاد فلان البريدي ومن معه إلى الأبواب الشريفة بالجواب الشريف، طالع بذلك إن شاء الله تعالى.
آخر في المعنى: وينهي ورود المثال الشريف زاده الله علواً وشرفاً، وبيض له في القيامة صحفاً، يتضمن أنواع الإنعام الجزيل. وإبداء آثار السرور بما يسر الله من وفاء النيل، فأشرقت أنوار تهانيه، وتألقت بروق ألفاظه ومعانيه، فبشر بفيض فصل الرحمة، وعموم الرعايا بتواتر عموم النعمة، إذ جاء محياه في هذا العام طلقاً وسلك في عوائد البر والإحسان طرقاً، وأذن ببلوغ المرام والمراد، وكسر سد خليجه جبراً للعباد والبلاد، حيث ملأ الأرض رياً، وأهدى من نفحات الأمن والمن رياً، والمرسوم الشريف- شرفه الله وعظمه- بأن لا يجبى على ذلك حق بشارة، ولا يتعرض إلى أحد بخسارة، فقابل المملوك المثال الشريف والمرسوم الشريف بتقبيل الأرض والسمع والطاعة، وبادر المملوك إلى إذاعة هذا البشرى، التي عمت تهانيها براً وبحراً، وجعلت أمور هذه الأمة بيمن بركة هذه الأيام الشريفة بعد عسر يسراً، واستنطق الألسنة بالدعاء لهذه الدولة القاهرة، وجلا وتلا صور الهناء وسور الآلاء بهذه النعمة الوافية والمنة الوافرة، وسأل الله تعالى أن يخلد ملك مولانا السلطان، ويوالي أنباء البشائر في أيامه الشريفة مروية بالأسانيد الحسان، وقد عاد فلان البريدي بالأبواب الشريفة- شرفها الله تعالى وعظمها- بهذا الجواب الشريف، وقد عاين ابتهال أهل هذه المملكة الفلانية بالدعاء بدوام هذه الأيام الزاهرة السارة بهذه البشائر بخلوها من الكلف والخسارة وطالع بذلك. إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة جواب عن مثال شريف بوصول فرس إنعام، كتب به عن نائب طرابلس، وهي: يقبل الأرض وينهي ورود المرسوم الشريف أعلاه الله تعالى وشرفه، ويتضمن ما اقتضته الآراء الشريفة من الخير التام، والإنعام العام، والصدقة الوافية الوافرة الأقسام، التي ما برحت مماليك هذه الدولة الشريفة في إنعامها العميم تتقلب، والخيل السوابق بسعادتها الأبدية تجلب وتجنب وتركب، من تجهيز الحصان البرقي بسرجه ولجامه وعدته الكاملة، وشمول المملوك بالصدقات التي ما برحت مترادفة متواصلة، ولعبد هذا البيت الشريف شاملة، وقبل المملوك الأرض وقبل حوافره، واعتد بهذه النعمة الباطنة والظاهرة، وأعده ليومي تجمل وجهاد، ولقاء عدو وطراد، والله تعالى يخلد هذه الصدقات الشريفة التي ما برحت تشمل القريب والبعيد، والموالي من أولياء هذه الدولة الشريفة والعبيد، طالع بذلك إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة عن وصول خيل من الإنعام السلطاني، من إنشاء الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي: وينهي وصول ما أنعم به من الخيل التي وجد الخير في نواصيها، وتتخذ صهواتها حصوناً يعتصم في الوغى بصياصيها. فمن أشهب غطاه النهار بحلته، وأوطأه الليل على أهلته، يتموج أديمه رياً، ويتأرج رياً، ويقول من استقبله في حلي لجامه: هذا الفجر قد طلع بالثريا، إن انفلت في المضايق انساب انسياب الأيم، وإن انفرجت المسالك مر مرور الغيم، كم أبصر فارسه يوماً أبيض بطلعته، وكم عاين طرف السنان مقاتل العدو في ظلام النقع بنور أشعته، لا يستن داحس في مضماره، ولا تطمع الغبراء في شق غباره، ولا يظفر لاحق من لحاقه بسوى آثاره، تسابق يداه مرمي طرفه، ويدرك شوارد البروق ثانياً من عطفه.
ومن أدهم حلك الأديم، حال الشكيم، له مقلة غانية وسالفة ريم، قد ألبسه الليل برده، وأطلع بين عينيه سعده، يظن من نظر إلى سواد طرته، وبياض حجوله وغرته، أنه توهم النهار نهراً فخاضه، وألقى بين عينيه نقطة من رشاش تلك المخاضة، لين الأعطاف، سريع الانعطاف، يقبل كالليل، ويمر كجلمود صخر حطه سيل، يكاد يسبق ظله، ومتى جرى السهم إلى غرض بلغه قبله.
ومن أشقر وشاه البرق بلهبه، وغشاه الأصيل بذهبه، يتوجس ما لديه بدقيقتين، وينفض وفرتيه عن عقيقتين، وينزل عذار لجامه من سالفتيه على شقيقتين، له من الراح لونها، ومن الرياح لينها، إن جرى فبرق خفق، وإن أسرع فهلال على شفق، لو أدرك أوائل حرب بني وائل لم يكن للوجيه وجاهة، ولا للنعامة نباهة، ولكان ترك إغارة سكاب لؤماً وتحريم بيعها سفاهة، يركض ما وجد أرضاً، وإذا اعترض به راكبه بحراً وثب عرضاً.
ومن كميت نهد، كأن راكبه في مهد، وعندمي الإرهاب، شمالي الذهاب، يزل الغلام الخف عن صهواته، وكأن نغم الغريض ومعبد في لهواته، قصير المطا، فسيح الخطا، إن ركب لصيد قيد الأوابد، وأعجل عن الوثوب الوحش اللوابد، وإن جنب إلى حرب لم يزور من وقع القنا بلبانه، ولم يشك لو علم الكلام بلسانه، ولم ير دون بلوغ الغاية- وهي ظفر راكبه- ثانياً عن عنانه، وإن سار في سهل اختال بصاحبه كالثمل، وإن أصعد في جبل طار في عقابه كالعقاب وانحط في مجاريه كالوعل، متى ما ترق العين فيه تسهل، ومتى أراد البرق مجاراته قال له الوقوف عند قدره: ما أنت هنا فتمهل.
ومن حبشي أصفر يروق العين، ويشوق القلب بمشابهة العين، كأن الشمس ألقت عليه من أشعتها جلالاً، وكأنه نفر من الدجى فاعتنق منه عرفاً واعتلق احجالاً، ذي الكفل يزين سرجه، وذيل يسد إذا استدبرته منه فرجه، قد أطلعته الرياضة على مراد فارسه، وأغناه نضار لونه ونضارته عن ترصيع قلائده وتوشيع ملابسه، له من البرق خفة وطئه وخطفه، ومن النسيم لين مروره ولطفه، ومن الريح هزيزها إذا ما جرى شأوين وابتل عطفه، يطير بالغمز، ويدرك بالرياضة مواقع الرمز، ويعدو كألف الوصل في استغناء مثلها عن الهمز.
ومن أخضر حكاه من الروض تفويفه، ومن الوشي تقسيمه وتأليفه، قد كساه النهار والليل حلتي وقار وسنا، واجتمع فيه من السواد والبياض ضدان لما استجمعا حسنا، ومنحه البازي حلة وشيه، ونحلته الرياح ونسماتها قوة ركضه وخفة مشيه، يعطيك أفانين الجري قبل سؤاله، ولما لم يسابقه شيء من الخيل أغراه حب الظفر بمسابقة خياله، كأنه تفاريق شيب في سواد عذار، أو طلائع فجر خالط بياضه الدجى، فما سجى، ومازج ظلامه النهار، فما أنار، يختال لمشاركة اسم الجري بينه وبين الماء في السير كالسيل، ويدل بسبقه على المعنى المشترك بين البروق اللوامع وبين البرقية من الخيل، ويكذب المانوية لتولد اليمن فيه بين إضاءة النهار وظلمة الليل.
ومن أبلق ظهره حرم، وجريه ضرم، إن قصد غاية فوجود الفضاء بينه وبينها عدم، وإن صرف في حرب فعمله ما يشاء البنان والعنان وفعله ما تريد الكف والقدم، قد طابق الحسن البديع بين ضدي لونه، ودلت على اجتماع النقضين علة كونه، وأشبه زمن الربيع باعتدال الليل فيه والنهار، وأخذ وصف حلتي الدجى في حالتي الإبدار والسرار، لا تكل مناكبه، ولا يضل في حجرات الجيوش راكبه، ولا يحتاج ليله المشرق بمجاورة نهاره إلى أن تسترسل فيه كواكبه، ولا يجاريه الخيال فضلاً عن الخيل، ولا يمل السرى إلا إذا مله مشبهاه: النهار والليل، ولا تتمسك البروق اللوامع من لحاقه بسوى الأثر فإن جهدت فبالذيل، فهو الأبلق الفرد، والجواد الذي لمحاربه العكس وله الطرد، قد أغنته شهرة نوعه في جنسه عن الأوصاف، وعدل بالرياح عن مباراته لسلوكها له في الاعتراف جادة الإنصاف.
فترقى المملوك إلى رتب العز من ظهورها، وأعدها لخطبة الجنان إذ الجهاد عليها من أنفس مهورها، وكلف بركوبها فكلما أكمله عاد، وكلما أمله شره إليه فلو أنه زيد الخيل لما زاد، ورأى من آدابها ما دل على أنها من أكرم الأصائل، وعلم أنها ليومي سلمه وحربه جنة الصائد وجنة الصائل، وقابل إحسان مهديها بثنائه ودعائه، وأعدها في الجهاد لمقارعة أعداء الله وأعدائه، والله تعالى يشكر بره الذي أفرده في الندى بمذاهبه، وجعل الصافنات الجياد من بعض مواهبه.
المهيع الثاني من مقاصد المكاتبات السلطانية ما يكتب به عن نواب السلطان والأتباع إلى السلطان ابتداء:
وهو على أنواع كثيرة، نذكر منها ما يستضيء به الكاتب في مثله.
فمن ذلك ما يكتب عن نائب كل مملكة إذا وصل إلى مملكته إذا وصل إلى محل ولايته. قد جرت العادة أن النائب إذا وصل إلى مملكته ومقر ولايته، كتب إلى السلطان يخبره بذلك وبما المملكة عليه.
وهذه نسخة مكاتبة من ذلك، كتب بها عن نائب حلب في معنى ذلك، وهي: يقبل الأرض وينهي أن المملوك وصل إلى المملكة الفلانية المحروسة، وحل محالها المأنوسة، التي شملته الصدقات الشريفة بكفالتها، وأهلته المراحم المنيفة لإيالتها، رافلاً في حلل الإنعام الشريف، متفيئاً ظل العز الوريف، صحبة فلان مسفره، ودخلها يوم كذا من شهر كذا لابساً تشريفه لشريف المنعم به عليه، ماشياً لمحمل الكرامة الذي سار إليه، بحضور من جرت العادة بحضوره، من قضاة القضاة والأمراء والحجاب، والعساكر المنصورة والأصحاب، على أجمل العوائد، وأكمل القواعد، وقبل الأرض بباب القلعة المنصورة، ودخل دار العدل الشريف وقطوف الأماني له مهصورة، وقريء بها بحضرة أولياء الدولة تقليده، وعظم المراسيم الشريفة تأييده، وتصدى لما نصبه له المراسم الشريفة من إنصاف المظلوم، وتنفيذ كل مهم شريف ومرسوم، وتصفح أحوال المملكة، وسلك كل أحد مسلكه، واستجلبت لمولانا السلطان، واجتهد في حياطة البلاد ممن يمد إليه الشيطان المفسدين بأشطان، وانتظم له أمر المملكة بالمهابة الشريفة أحسن انتظام، وبلغ به كل ولي من قهر العدو غاية المرام، وقد أعاد المملوك فلاناً مسفره إلى خدمة الأبواب الشريفة مزاح الأعذار، مبلغ الأوطار، على العادة طالع بذلك ولا زال منه مزيد الشرف والعلو إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة كتاب في المعنى إلى الأبواب السلطانية عن نائب طرابلس، وهي: يقبل الأرض وينهي أنه وصل إلى طرابلس المحروسة مغموراً بالصدقات الشريفة، والإنعامات المطيفة، صحبة مملوك مولانا السلطان فلان خلد الله تعالى ملكه، وألبس تشريفه الشريف، وقريء تقليده الشريف بدار العدل، وقبل الأرض مراراً على العادة، وتقدم المملوك بالحلف الشريف على النسخة المجهزة صحبة المشار إليه من الأبواب الشريفة عظمها الله تعالى، بحضور من جرت العادة بحضوره، من قضاة القضاة والأمراء، وكتب خطه عليها، وانتصب المملوك لخلاص الحقوق، وإزالة المظالم، ونشر لواء العدل الشريف، لينتصف المشروف من الشريف، وينزجر القوي عن الضعيف، واتباع الحق في القضايا واستجلاب الأدعية بدوام هذه الدولة العادلة من الرعايا، ورتب أمورك الآزاك المنصورة على أكمل عادة وأجمل قاعدة، وقد عاد فلان إلى الأبواب الشريفة، شرفها الله تعالى وعظمها، لينهي بين يدي الأيادي المعظمة، ما عاينه من المملوك من إخلاصه في الطاعة الشريفة ومغالاته، طالع بذلك، إن شاء اله تعالى.
ومن ذلك ما يكتب به في التهنئة بالخلافة: أما التهنئة الخلافة، فقد قال في مواد البيان: من الأدب المستفيض ترفيه الخلفاء عن الهناء والعزاء، إكباراً لهم وتعظيماً، إلا أننا رأينا ذوي الأخطار من القدماء قد شافهوه بالعزاء مسلين، وبالهناء داعين، وربما دفع الكاتب إلى صحبة رئيس يقتضي محله أن يهنئ الخليفة بمتجدد النعم لديه، ويعزيه لمتطرق النوائب إليه، فاحتيج إلى أن يرسم في هناء الخلفاء وعزائهم، ما يحتذى عليه عند الحاجة إلى استعمال مثله.
وهذه نسخة تهنئة بالخلافة، أوردها في مواد البيان، وهي:
أولى النعم- خلد الله ملك مولانا أمير المؤمنين- بأن ينطق بها ألسن الذاكرين يضوع عطرها، وتتناقلها أفواه الشاكرين يفوح نشرها نعمة إيلائه في خلافته التي جعلها ذخراً للأنام، وعصمة للإسلام، وحاجزاً بين الحلال والحرام، وقواماً للائتلاف والاتفاق وزماماً عن الاختلاف والافتراق، ونظاماً لصالح الخاصة والعامة، وسبيلاً في اجتماع الكلمة وسكون الأمة، وسبباً لحقن الدماء، ودعة الدهماء، ومجاهدة الأعداء، وإقامة الصلوات، وإيتاء الزكوات، والعمل بالفرائض والسنن، وحسم البدع والفتن، وعدقها بالأخبار ورثة نبيه وعترته، والأبرار والطهرة من أرومة رسوله وشجرته، الذين نصبهم دعاة إلى طاعته، وهداة لبريته، وأعلاماً لشريعته، يأمرون بالمعروف ويأتمرون، وينهون عن المنكر وينتهون، ويقضون بالحق وبه يعدلون، وكلما لحق منهم سلف بمقر أوليته أقام خلفاً يختصه بانتخابه وتكرمته.
والحمد لله الذي جعل قصر خلافته على أمير المؤمنين وآبائه، وجعل منهم الماضي الذي كانت مفوضة إليه، والآتي الذي أقرت عليه، وأنجز لهم ما وعدهم من إبقاء الإمامة، في عقبهم إلى يوم القيامة، واستخلص لها من عصرنا هذا وليها الحامي لحقيقتها، والمرامي عن حوزتها، المعز لكلمتها، الرافع لرايتها، المحدد لحدودها، الحافظ لعقودها، وسلم قوساً منه إلى باريها، وناطقها بكفئها وكافيها، وأفضى إليه بشرف الولادة الأبوة، وميراث الإمامة والنبوة، وألف به بين القلوب الآبية، وجمع عليه النفوس النائية، واتفقت الآراء بعد تباينها وتنافيها، وتطابقت الأهواء على اختلافها وتعاديها، واستدت ثلمة الدين بعد انثغارها، واطمأنت الدهماء بعد نفارها، حمداً يكون لنعمته كفاء، ولموهبته جزاء.
وخلافة الله وإن كانت الغاية التي لا تنزع الهمم إليها، ولا تتطلع الأماني عليها، لاختصاص الله بها صفوته من بريته، وخالصته من أهل بيت نبيه وعترته، فإن أمير المؤمنين يتعاظم عن تهنئته بوصولها إليه، وسبوغ ملابسها عليه، إذ لا يسوغ أن يهنأ بإدراك ما كتب الله له أن يدركه بأقلام الأقدار على صفحات الليل والنهار، والعبد يسأل الله تعالى في إنهاض أمير المؤمنين بما حمله وكلفه، وتوفيقه فيما كلفه واستخلفه، وأن يمكن له في الأرض، ويعلي يده بالبسط والقبض، ويده بعز السلطان، وعلو الشان، وظهور الأولياء، وثبور الأعداء وإعزاز الدين، وابتزاز الملحدين، وتقوية يده في نصرة الإسلام، وسياسة الأنام، ويعرف رعيته من يمن دولته، وسعادة ولايته، ما يجمعهم على الطاعة والموافقة، ويعصمهم من المعصية والمفارقة، ويوفقهم من الإخلاص في موالاته، لما يوفر حظهم من مرضاته، ويجعل ولايته هذه مقرونة بانفساح المدة والأجل، وبلوغ المنى والأمل، وصالح القول والعمل، ويبلغه في مملكته ودولته أفضل ما بلغه خليفة من خلفائه، وولياً من أوليائه.
ومن ذلك يكتب في البشارة بالفتوح: قد جرت العادة أن السلطان إذا وجه جيشاً لفتح قلعة أو قطر من الأقطار وحصل الفتح على يديه أن يكتب السلطان مبشراً بذلك الفتح، منوهاً بقدره، معظماً لأمره، وما كان فيه من عزيز النصر وقوة الظفر.
فمن مكاتبة في البشارة بفتح حصن المرقب، وهي:
قد أسفر عن الفتح المبين صباحه، والتأييد وقد طار به محلق التباشير فخفق في الخافقين جناحه، والإسلام وقد وطيء هامة الكفر بمقدمه، والدين وقد عز بفتكات سيفه المنصور فأنف أن يكون الشرك من خدمه، والأفلاك وقد علمت أنه لهذا الفتح القريب كان اجتماع كواكبها، والأملاك وقد نزلت لتشهد أحمد النصرة البدرية في صفوفهما ومواكبهما، وحصن المرقب وقد ألقت عليه الملة الإسلامية أشعة سعدها، وأنجزت له الأيام من الشرف بها آماله بعد ما طال انتظاره لوعدها، وأمنته الأقدار الني ذللته للإسلام أن تطأول إليه الحوادث من بعدها، وقد أحاطت العلوم بأن هذا الحصن طالما شحت الأحلام، أو تخيل فتحه لمن سلف من الأنام، فما حدثت الملوك أنفسها بقصده إلا وثناها الخجل، ولا خطبته ببذل النفائس والنفوس إلا وكانت من الحرمان على ثقة ومن معاجلة الأجل وقته على وجل، وحوله من الجبال كل شامخ تتهيب عقاب الجو قطع عقابه، وتقف الرياح خدماً دون التواقل في هضابه، وحوله من الأودية خنادق لا تعلم منها الشهور إلا بأصنافها ولا تعرف فيها الأهلة إلا بأوصافها، وهو مع ذلك تفرط بالنجوم، وتقرطق بالغيوم، وسما فرعه إلى السماء ورسا أصله في التخوم، تخال الشمس إذا علت أنها تنتقل في أبراجه، ويظن من سما إلى السها أنه ذبالة في سراجه، فكم من ذي جيوش قد مات بغصة، وذي سطوات أعمل الحيل فلم يفز من نظيره على البعد بفرصة، ولا يعلوه من مسمى الطير سوى نسر الفلك ومرزمه، ولا يرمق متبرجات أبراجه غير عين شمسية والمقل التي تطرف من أنجمه، وقد كان نصب عليه من المجانيق ما سهامه أنفذ من سهام الجفون، وخطراته أسرع من لحظات العيون، لا يخاطب إلا بوساطة رسله بضمير الطلاب، ولا يرى لسان سهمه إلا كما ترى خطفات البرق إذا تألق في علو السحاب، فنزلت عليه الجيوش نزول القضاء، وصدمته بهممها التي تستعر منها الصوارم سرعة المضاء وروعة الانتضاء، فنظرت منه حصناً قد زرر عليه الجوجيب غمامه، وافتر ثغره كلما جذب عنه البرق فأضل لثامه، فتذللت صعابه، وسهلت عقابه، وركزت للجنوبات في سفحه وطالما مخلفة تبكي عليها الغمائم، فضرب بينهما وبين الحصن بسور باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، ونصبت فوقه من الأسنة ثغور براقة الثنايا ولكنها غير عذاب، فعاد ذلك السفح مصحفاً بصفاحها، مشرقاً بأعلام أسنة رماحها، فأرسلت إلى أرجائها ما أربى على الغمائم، وزاد في نفحه على التمائم [طويل].
وكان بها مثل الجنون فأصبحت ** ومن جثت القتلى عليها تمائم

ونصبت عليها المجانيق فلم ترع حق جنسها، وسطت عليها فأصبح غدها في التحامل أبعد من أمسها، واستنهضتها العدا فاعلمتهم أنها لا تطيق الدفاع عن غيرها بعد أن عجزت عن نفسها، وبسطت أنفها أمارة على الإذعان، ورفعت أصابعها، إما إجابة أن تذل للتشهد وإما إنابة إلى طلب الأمان، فخاف العدا من ظهور هذا الاستظهار، وعلموا أن المجانيق فحول لا تثيب لها الإناث التي عريت من النفع بأيديهم فاستعانوا عليهن مع العدا بطول الجدار، فعند ذلك غدت تكمن كمون الأوساد وتثب وثوب الأسود، وتباري بها الحصون السماء فكلما قذفت هذه بكواكبها النيرة قذف هذا بكوكبه السود، ولم يكسر لهم منجنيق إلا أن نصبوا آخر بمكانه، ولا قطعت لأحد إصبع إلا وصل الآخر ببنانه، فظلت تتحارب مثل الكماة، وتتحامل الرماة، حتى لقحت وفسحت للرضا مجالاً، ومالت وميل فيها وكذلك الحرب تكون سجالاً.
هذا والنقوب قد دبت في باطنه دبيب السقام، وتمشت في مفاصله كما تتمشى في مفاصل شاربها المدام، وحشت أضالعه ناراً تشبه نار الهوى، تحرق الأحشاء ولا يبدو لها ضرام، قد داخلت مرسلة الوجل، فتحققوا حلول الأجل، وعملوا أن هذا الفتح الذي تمادت عليه الأيام قد جاء يسعى إلى ما بين يديه على عجل، وأيقن الحصن بالانتظام في سلك الممالك الشريفة فكاد يرقصه بمن فيه فرط الجذل، وزاد شوقه إلى التشريف ويا صبابة لوسمها واسمها مشتاق لكنهم أظهروا الجلد، وأخفوا ضرام نار الجزع وكيف تخفي وقد وقد، وتدفقت إليهم الجيوش فملأت الأفق، وأحاطت بهم إحاطة الطوق بالعنق، ونهضت إليهم مستمدة من عزمات سلطانها، مستعدة لانتزاع أرواح العدا على يديها من أوطانها، فانقطعت بهم الظنون، ودارت عليهم رحى المنون، وأمطرت عليها المجانيق أحجارها {فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون} وحطت بساحتها عقبان تلك الأحجار، فهدمت العمائر والأعمار، وأجرت في أرجائها أنهار الدماء فهلكوا بالسيف والنبل والنار، وتحكمت هذه الثلاثة في أهل التثليث فبدوا بالخوف من أمنهم، وهربوا منها إلى مخايل حصنهم.
ولما ركب الأول للزحف في جيوشه التي كاثرت البحر بأمواجه، تزلزل الحصن لشدة ركضه، وتضعضع من خوف عصيانه فلحقت سماؤه بأرضه، وتحللت قواعد ما شيد من أركانه فانحلت، وألقت الأرض ما فيها وتخلت، ومشت النار من تحتهم وهم لا يشعرون، ونفخ في الصور بل في السور فإذا هم قيام ينظرون، وما كان إلا أن قابلت العساكر ذلك البرج حتى أهوى يلثم التراب، وتأدب بآداب الطاعة فخر راكعاً وأناب، فهاجمتهم الجيوش مهاجمة الحتوف، وأسرعت المضاء والانتضاء فلم تدر العدا، أهم أم الذين في أيمانهم السيوف التي تسبق العذل؟ وثبت منهم من لم يجد وراءه مجالاً فلجأوا إلى الأمان، وتمسك دنيء كفرهم بعزة الإيمان، وتشبثوا بساحل العفو حتى ظنوا أنهم أحيط بهم وجاءهم الموج من كل مكان، وسألونا أن يكونوا لما من جملة الصنائع، وتضرعوا في أن نجعل أرواحهم لسيوفنا من جملة الودائع فنصدق عليهم بأرواحهم كرماً، وطلوا على معنى الحديث النبوي: يرون الممات يقظة والحياة حلماً وأطلقتهم اليد التي لا يخيب لديها الأنامل، وأعتقتهم اليمنى التي فجاج الأرض في قبضتها، فمتى تشاء تجمع عليهم الأنامل، وخرجوا بنفوس قد تجردت حتى من الأجسام، ومقل طلقت الكرا خوفاً من الصوارم التي تسلها عليهم الأحلام، وسطرت والمدينة قد تسنم أعلاها، وشعار الإيمان قد جردها من لباس الكفر وأعراها، والأعلام قد سلكت إلى ذلك الحصن أعلى مرقى، والسعادة قد بدلت بيعه مساجد ومحاريبه قبلة وكانت شرقاً، فأصبح يرفل في حلل الإيمان، وأذعن بالطاعة فأخرس جرس الجرس به صوت الأذان، إن شاء الله تعالى. ومن ذلك ما يكتب به التعازي إلى الخلفاء: وقد تقدم في الكلام على التهنئة بولاية الخلافة، أنه كما ينبغي أن لا يهنأ الخليفة بالخلافة إعظاماً، فكذلك ينبغي أن لا يعزى في مصابه، إلا أنه ربما دعت ضرورة الكاتب إلى ذلك، لإكرام بعض أخصاء الخليفة بالكتابة بذلك إلى الخليفة. ولا يخفى أن الحال في ذلك يختلف باختلاف المعزي، من والد أو ولد أو غيرهما.
وهذه نسخة مكاتبة في معنى ذلك ذكرها في مواد البيان، وهي: أما بعد فإن الله تعالى جعل خلافته لخلقه قواماً، ولبريته نظاماً، وجعل له خلفاء يدخرهم لميراثها، ويختصهم بتراثها، فإذا انقضت مدة ماضيهم، لما يريده الله من استدنائه إلى مقر خلصائه، نقلها إلى نوره باصطناعه واصطفائه. والحمد لله الذي قصر خلافته على أمير المؤمنين وآبائه، وجعل منهم زعيمهم الماضي الذي كانت بيديه مواريثها، والآتي الذي صار إليه تراثها.
والحمد لله الذي ختم لأمير المؤمنين المنتقل إلى دار الكرامة بأفضل الخاتمة وأحسن له الجزاء عن السعي في الأمة، وأنعم باستخلاص أمير المؤمنين لإمامة خليقته، وحياطة سريعته، وحماية بلاده، وسياسة عباده، ولوراثة تراث آبائه وأجداده، وجعل الماضي منهم مرضياً عنه، والآتي مرضياً به، وأعتدت الرعية من عدل أمير المؤمنين ما جبر كسرها في خليقته، وصبرها في رزيته، وهو المسؤول أن يلهمه على المصيبة في سلفه الطاهر صبراً، وعلى ما أخلفه عليه في تأهيله لخلافته التي لا كفاء لها شكراً، بمنه وفضله إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة كتاب في التعزية أيضاً، وهي:
إن الله خص أمير المؤمنين بما هو أهله من خلافته، وعظم محله بما نصبه له من إمامة بريته، وجعله عماداً لأهل الإسلام تجتمع عليه أهواؤهم، وتسكن إليه أملاؤهم، ويصلح به دينهم ودنياهم، ويستقيم به أمر أولاهم وأخراهم، فإذا أسبغ نعمة من نعمه عليه، وظاهر موهبة من مواهبه لديه، شركوه فيها، ونهضوا معه على الشكر عليها، وإذا ابتلاه ببلية، وامتحن صبره برزية، أخذوا بالنصيب العظيم من الحادث، والحظ الجسيم من الكارث، وما أفردوه بثواب الله فيها وما جعله جزاء من الأجر عليها.
وإن الله تعالى كان أعار أمير المؤمنين من فلان- رضي الله عنه- عارية من عواريه، وبلغه من الاستماع بها ما احتسب من أمانيه، ثم استرجعها ليثقل بها ميزانه، ويضاعف إحسانه، ويجعلها له ذخراً، ونوراً يسعى بين يديه وأجراً، فعظم بذلك المصاب على رعيته وكبر الرزء على أهل دعوته، لما كانوا يرجونه من سكون القلوب، ونقع الخطوب، واستقرار قواعد الخلافة، وشمول الرحمة والرأفة، وقد حصل أمير المؤمنين على نعم كثيرة من موهبته وثوابه في استعادته، وحصل كافة خاصته على القلق لفقده، والأسى من بعده، وقد جعله الله تعالى صلاح كل فساد، وثقاف كل مياد، ومهبط كل رحمة، وطريق كل نعمة، وهو خليق بأن ينظر من صبره، ورضاه بقضاء الله وتسليمه لأمره، ما يبعث على التأسي به، والتأدب بأدبه، والله تعالى يحسن لأمير المؤمنين الخلف، ويعوضه أحسن العوض في المؤتنف، ويوفر حظه من الثواب، ويعظم له الأجر على المصاب، ويريه في أوليائه وأحبائه، أعظم محابه وغاية آرابه، وينقل المنقول إلى إيوان الكرامة والاحتفاء، بأفضل الأجداد والآباء، بفضله ورحمته، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة كتاب، كتب به إلى الأبواب السلطانية عند فتح آياس قاعدة بلاد الأرمن وانتزاعها من أيديهم، وهي: يقبل الأرض وينهي أن ليلة الانتظار أطلعت صباحها، ومواعيد الآمال بعثت على يد الإقبال نجاحها، والعساكر المنصورة جردت رابع ربيع الأول بمدينة آياس صفاحها، وأوردت إلى الصدور رماحها، فلم يكن إلا كلمح البصر، ولسان صدق القتال قائل بأن الجيش الناصري قد انتصر، وانقضى ذلك النهار، بإيقاد نار حرب الحصار، على أبراج وأسوار، أديرت على المينا كما أدير المعصم على السوار، فلما أشرق صباح الصفاح ولاح، إلا والأعلام الناصرية على قلة القلعة مائسة الأعطاف من الارتياح، معلنة ألسنتها بحي على الفلاح وحي على النجاح، وعز الإسلام يقابل ذل الكفر، بهذا النصر وهذا الافتتاح، وجمع الأرمن الملا تفرق ما بين قتل وأسر وانتزاح، ولعبت أيدي النيران في القلعة وجوانبها، وتفرقت من الأسوار أعضاء مناكبها، ونطق بالأقدار لسان النار: هذي منازل أهل النار في النار.
ثم انتقلت المحاصرة إلى قلعة البحر، وضم الأرمن الملا إليها سيف القدرة والقهر، وهذه القلعة عروس بكر في سماء العز شاهقة، لم يسبق لأحد من الملوك الأوائل إلى خطبتها سابقة، قد شمخت بأنفها، ونأت بعطفها، وتاهت على وامقها، وغضت عين رامقها، فهي في عقاب لوح الجو كالطائر، وسورها البحر والحجر فلا يكاد يصل إلى وكرها الناظر، وقد أوثقت بحلقات الحديد، وقيدت كأنها عاصية تساق بالأصفاد إلى يوم الوعيد، فأرسل عليها المنجنيق عقابه، وأعلق بها ظفره ونابه، فكشف عن شرفاتها شنب ثغرها، وسقاها بأكف أسهمه كؤوس حجارة فتمايلت من شدة سكرها، وفض من أبراجها الصناديق، المقفلة، وفصل من أسوارها الأعضاء المتصلة، فتزلزل عمدها، وزيل من مكانه جلمدها، وعلت الأيدي المرأمية بها، وغلت الأيدي المحأمية عنها، واشتد مرضها من حرارة وهج الحصار، وضعفت قوتها عن مقاومة تلك الأحجار، ولم يبق على سورها من يفتح له جفناً، وشن المنجنيق عليها غارته إلى أن صارت شناً، فأرسل إليها من سماء غضبه رجوماً، ووالى ذلك عليها سبع ليال وثمانية أيام حسوماً، فبادرت إلى الطاعة واستسلمت، وكرر نحوها ركوعه فسجدت، وركبت الجيوش المنصورة عوض الصاقنات اللجج، وسمحت في سبيل الله عز وجل بالمهج، فعند ذلك سارع أهلها إلى التعلق بأسباب الهرب، وكان خراب قلعة المينا هذي لخراب قلعتهم من الجرب، وأحرقوا كبدها من أيديهم بنار الغضب، وانتزحوا منها ليلاً، وجروا من الهزيمة ذيلاً، وتسلمها المسلمون، وتحسر عليها الحسرة الكبرى الكافرون، وهدمت حجراً حجراً، وصافحت بجبهتها وجه الثرى، وأعدمت من الوجود عيناً وأثراً، فما أعجب هذا الفتح وأغرب! وما أحلى ذكره في الأفواه وما أعذب! وما ألذ حديثه في الأسماع وما أطرب! وما أسعد هذا الجيش الناصري وما أنجب! [بسيط]
بشراك بشراك هذا النصر والظفر ** هذا الفتوح الذي قد كان ينتظر

فتح مبين ونصر جل موقعه ** سارت به وله الأملاك والبشر

عجائب ظهرت في فتحه بهرت ** لم تأت أمثالها الأيام والبشر

لو كان في زمن ماض به نزلت ** في وصف وقعته الآيات والسور

هذي أياس التي قد عز جانبها ** وعز خاطبها حتى أتى القدر

جاءت إليها الجيوش كم بها أسد ** بيض الصفاح لها الأنياب والظفر

جيش لهام كبحر زاجر لجب ** إذا سرى لا يرى شمس ولا قمر

يسير بالنصر أنى سار متجهاً ** ما زال يقدمه التأييد والظفر

جيش له الله والأملاك ناصرة ** مليكه ناصر للدين منتصر

يوم الخميس رأيت الخيل حاملة ** على رؤوس عداة هامها أكر

وقلعة البحر كانت آية لهم ** فعن يسير فأضحت للورى عبر

كانت بأفق سماء العز شاهقة ** أبراجها باسقات خرتها خطر

فركب المسلمون البحر باذلة ** أرواحها في سبيل الله تدخر

لم يبق منهم أمير لا ولا ملك ** يأوي مقراً إلى أن مدت الجسر

وعجل الله بالفتح المبين لهم ** هذا الفتوح الذي توفى له النذر

يرضى به الله والإسلام قاطبة ** وشاهد القول فيه العين والأثر

.النوع الثاني: ...........................................................

.................................................................................